سورة البقرة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


السجود: التذلل والخضوع، وقال ابن السكيت: هو الميل، وقال بعضهم: سجد وضع جبهته بالأرض، وأسجد: ميل رأسه وانحنى، وقال الشاعر:
ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر *** يريد أن الحوافر تطأ الأكم
فجعل تأثر الأكم للحوافر سجوداً مجازاً، وقال آخر:
كما سجدت نصرانة لم تحنف ***
وقال آخر:
سجود النصارى لأحبارها ***
يريد الإنحناء
إبليس: اسم أعجميّ منع الصرف للعجمة والعلمية، قال الزجاج: ووزنه فعليل، وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، ووزنه على هذا، أفعيل، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية، واعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء، وردّنا: غريض، وإزميل، وإخريط، وإجفيل، وإعليط، وإصليت، وإحليل، وإكليل، وإحريض. وقد قيل: شبه بالأسماء الأعجمية، فامتنع الصرف للعلمية، وشبه العجمة، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقاً من الإبلاس فإنه لم يسم به أحد من العرب، فصار خاصاً بمن أطلقه الله عليه، فكأنه دليل في لسانهم، وهو علم مرتجل. وقد روي اشتقاقه من الإيلاس عن ابن عباس والسدي، وما إخاله يصح. الإباء: الامتناع، قال الشاعر:
وأما أن تقولوا قد أبينا *** فشرّ مواطن الحسب الإباء
والفعل منه: أبي يأبى، ولما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين وليس بقياس أمرى، كأنه مضارع فعل بكسر العين، فقالوا فيه: يئبى بكسر حرف المضارعة، وقد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون يأبى على هذه اللغة قياساً، ووافق من قال أبي بفتح العين على هذه اللغة. وقد زعم أبو القاسم السعدي أن أبى يأتي بفتح العين لا خلاف فيه، وليس بصحيح، فقد حكى أبى بكسر العين صاحب المحكم. وقد جاء يفعل في أربعة عشر فعلاً وماضيها فعل، وليست عينه ولا لامه حرف حلق. وفي بعضها سمع أيضاً فعل بكسر العين، وفي بعض مضارعها سمع أيضاً يفعل ويفعل بكسر العين وضمها، ذكرها التصريفيون. الاستكبار والتكبر: وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وهو أحد المعاني الإثنى عشر التي جاءت لها استفعل، وهي مذكورة في شرح نستعين.
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى لما شرف آدم بفضيلة العلم وجعله معلماً للملائكة وهم مستفيدون منه مع قولهم السابق: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}. أراد الله أن يكرم هذا الذي استخلفه بأن يسجد له ملائكته، ليظهر بذلك مزية العلم على مزية العبادة. قال الطبري: قصة إبليس تقريع لمن أشبهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.
وإذ: ظرف كما سبق فقيل بزيادتها. وقيل: العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. وقيل: هي معطوفة على ما قبلها، يعني قوله: {وإذ قال ربك}، ويضعف الأول بأن الأسماء لا تزاد، والثاني أنها لازم ظرفيتها، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه. وقيل: العامل فيها أبى، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله: {فسجدوا}، تقديره: انقادوا وأطاعوا، لأن السجود كان ناشئاً عن الانقياد للأمر. وفي قوله: {قُلْنَا} التفات، وهو من أنواع البديع، إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن الله بصورة الغائب، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم، {وأتى بنا} التي تدل على التعظيم وعلوّ القدرة وتنزيله منزلة الجمع، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة.
وحكمة هذا الالتفات وكونه بنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود، ووجب عليهم الامتثال، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر من المعظم. وقد جاء في القرآن نظائر لهذا، منها: {وقلنا يا آدم اسكن} {وقلنا اهبطوا} {قلنا يا نار كوني برداً}، وقلنا من بعده لبني إسرائيل: {اسكنوا الأرض} {وقلنا لهم ادخلوا الباب} {وقلنا لهم لا تعدوا} فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء على المأمور، فظهر للمأمور بصفة العظمة، ولا أعظم من الله تعالى، والمأمورون بالسجود، قال السدي: عامة الملائكة. وقال ابن عباس: الملائكة الذين يحكمون في الأرض. وقرأ الجمهور: للملائكة بجر التاء. وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وسليمان بن مهران: بضم التاء، اتباعاً لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة. قال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، وقال ابن جني: لأن كسرة التاء كسرة إعراب، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر، إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو: {وقالت اخرج} وقال الزمخشري: لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم: {الحمد لله}، انتهى كلامه. وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة، فلا ينبغي أن يخطأ القارئ بها ولا يغلط، والقارئ بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضاً عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضاً لأنها ليست بأصل.
ألا تراهم قالوا: الملائك؟ وقيل: ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها.
{اسجدوا}: أمر، وتقتضي هذه الصيغة طلب إيقاع الفعل في الزمان المطلق استقباله، ولا تدل بالوضع على الفور، وهذا مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر بن الطيب، واختاره الغزالي والرازي خلافاً للماليكة من أهل بغداد، وأبي حنيفة ومتبعيه. وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الفقه، وهذ الخلاف إنما هو حيث لا تدل قرينة على فور أو تأخير. وأما هنا فالعطف بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة، فتكون الملائكة قد فهموا الفور من شيء آخر غير موضوع اللفظ، فلذلك بادروا بالفعل ولم يتأخروا. والسجود المأمور به والمفعول إيماء وخضوع، قاله الجمهور، أو وضع الجبهة على الأرض مع التذلل، أو إقرارهم له بالفضل واعترافهم له بالمزية، وهذا يرجع إلى معنى السجود اللغوي، قال: فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك. {لآدم}: من قال بالسجود الشرعي قال: كان السجود تكرمة وتحية له، وهو قول الجمهور: علي وابن مسعود وابن عباس، كسجود أبوي يوسف، لا سجود عبادة، أو لله تعالى، ونصبه الله قبلة لسجودهم كالكعبة، فيكون المعنى إلى آدم، قاله الشعبي، أو لله تعالى، فسجد وسجدوا مؤتمين به، وشرفه بأن جعله إماماً يقتدون به. والمعنى في: {لآدم} أي مع آدم. وقال قوم: إنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه، فالسجود امتثال لأمر الله، والسجود له، قاله مقاتل، والقرآن يرد هذا القول. وقال قوم: كان سجود الملائكة مرتين. قيل: والإجماع يرد هذا القول، والظاهر أن السجود هو بالجبهة لقوله: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} وقيل: لا دليل في ذلك، لأن الجاثي على ركبتيه واقع، وأن السجود كان لآدم على سبيل التكرمة، وقال بعضهم: السجود لله بوضع الجبهة، وللبشر بالانحناء، انتهى. ويجوز أن يكون السجود في ذلك الوقت للبشر غير محرم، وقد نقل أن السجود كان في شريعة من قبلنا هو التحية، ونسخ ذلك في الإسلام. وقيل: كان السجود لغير الله جائزاً إلى زمن يعقوب، ثم نسخ، وقال الأكثرون: لم ينسخ إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث عرض عليه الصحابة أن يسجدوا له: «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين» وأن معاذاً سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك. قال ابن عطاء: لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم بذلك استغناءه عنهم وعن عبادتهم.
{فسجدوا}، ثم: محذوف تقديره: فسجدوا له، أي لآدم. دل عليه قول: {اسجدوا لآدم}، واللام في لآدم للتبيين، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح {الحمد لله}.
{إلا إبليس}: هو مستنثى من الضمير في فسجدوا، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب، وهو استثناء متصل عند الجمهور: ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وقتادة وابن جريج، واختاره الشيخ أبو الحسن والطبري، فعلى هذا يكون ملكاً ثم أبلس وغضب عليه ولعن فصار شيطاناً. وروى في ذلك آثار عن ابن عباس وقتادة وابن جبير، وقد اختلف في اسمه فقيل: عزازيل، وقيل: الحرث. وقيل: هو استثناء منقطع، وأنه أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكاً، قاله ابن زيد والحسن، وروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود وشهر بن حوشب: أنه من الجن الذين كانوا في الأض وقاتلتهم الملائكة، فسبوه صغيراً وتعبد مع الملائكة وخوطب معهم، واستدل على أنه ليس من الملائكة بقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} فعم، فلا يجوز على الملائكة الكفر ولا الفسق، كما لا يجوز على رسله من البشر، وبقوله: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}، وبقوله: {كان من الجن} وبأن له نسلاً، بخلاف الملائكة، والظاهر أنه استثناء متصل لتوجه الأمر على الملائكة، فلو لم يكن منهم لما توجه الأمر عليه، فلم يقع عليه ذم لتركه فعل ما لم يؤمر به. وأما جاعل الملائكة رسلاً، ولا يعصون الله ما أمرهم، فهو عام مخصوص، إذ عصمتهم ليست لذاتهم، إنما هي بجعل الله لهم ذلك، وأما إبليس فسلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية. وأما قوله تعالى: {كان من الجن}، فقال قتادة: هم صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال ابن جبير: سبط من الملائكة خلقوا من نار، وإبليس منهم، أو أطلق عليه من الجن لأنه لا يرى، كما سمي الملائكة جنة، أو لأنه سمي باسم ما غلب عليه، أو بما كان من فعله، أو لأن الملائكة تسمى جناً. قال الأعشى في ذكر سليمان على نبينا وعليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة *** قياماً لديه يعملون بلا أجر
{أبى}: امتنع وأنف من السجود لآدم. {واستكبر}: تكبر وتعاظم في نفسه وقدم الإباء على الاستكبار، وإن كان الاستكبار هو الأول، لأنه من أفعال القلوب وهو التعاظم، وينشأ عنه الإباء من السجود اعتباراً بما ظهر عنه أولاً، وهو الامتناع من السجود، ولأن المأمور به هو السجود، فلما استثنى إبليس كان محكوماً عليه بأنه ترك السجود، أو بأنه مسكوت عنه غير محكوم عليه على الاختلاف الذي نذكره قريباً إن شاء الله. والمقصود: الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة. فناسب أن يبدأ أولاً بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء، أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة، والذي يؤدي هذا المعنى هو الإباء من السجود. والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا قلت: قام القوم إلا زيداً، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم، وأن زيداً غير محكوم عليه ام ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم.
ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول، والصحيح مذهبنا، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، ومفعول أبي محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، قال الشاعر:
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه *** عليه فأفضى والسيوف معاقله
والتقدير: أبى السجود، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ لفعل المنفي، قال تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} ولا يجوز: ضربت إلا زيداً على أن يكون استثناء مفرغاً لأن إلا لا تدخل في الواجب، وقال الشاعر:
أبى الله إلا عدله ووفاءه *** فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وأبى زيد الظلم: أبلغ من لم يظلم، لأن نفي الشيء عن الشخص قد يكون لعجز أو غيره، فإذا قلت: أبى زيد كذا، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناع والأنفة منه، فلذلك جاء قوله تعالى: {أبى}، لأن استثناء إبليس لا يدل إلا على أنه لم يسجد، فلو اقتصر عليه لجاز أن يكون تخلفه عن السجود لأمر غير الإباء، فنص على سبب كونه لم يسجد وهو الإباء والأنفة.
{وكان في الكافرين} قيل: كان بمعنى صار، وقيل: على بابها أي كان في علم الله لأنه لا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره. فالمعنى: أنه كان في علم الله سيكون من الكافرين. قال أبو العالية: من العاصين، وصلة أل هنا ظاهرها الماضي، فيكون قد سبق إبليس كفار، وهم الجن الذين كانوا في الأرض، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقاً، إن لم يصح أنه كان كفار قبله، وإن صح، فيفيد أول من كفر بعد إيمانه، أو يراد الكفر الذي هو التغطية للحق، وكفر إبليس قيل: جهل سلبه الله ما كان وهبه من العلم، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة، وقيل: كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود. قال ابن عطية: والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره جوازه واقع بالفعل. هذا فرعون كان عالماً بوحدانية الله وربوبيته دون غيره، ومع ذلك حمله حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من الملك، فادعى الألوهية مع علمه. وأبو جهل، كان يتحقق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم أن ما جاء به حق، ومع ذلك أنكر نبوته، وأقام على الكفر. وكذلك الأخنس، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما ممن كفر عناداً، مع علمهم بصدق الرسل، وقد قسم العلماء الكفار إلى كافر بقلبه ولسانه، كالدهرية والمنكرين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكافر بقلبه مؤمن بلسانه وهم المنافقون، ومؤمن بقلبه كافر بلسانه، كفرعون ومن ذكر معه فلا ينكر الكفر مع وجود العلم.
وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على أن المعصية توجب الكفر، وأجيب بأنه كافر منافق وإن كان مؤمناً فإنما كفر لاستكباره واعتقاد كونه محقاً في ذلك التمرد، واستدلاله على ذلك بقوله: {أنا خير منه} قال القشيري: لما كان إبليس مدة في دلال طاعته يختال في مراد موافقته، سلموا له رتبة التقدم واعتقدوا فيه استحقاق التخصص، فصار أمره كما قيل:
وكان سراج الوصل أزهر بيننا *** فهبت به ريح من البين فانطفا
سئل أبو الفتوح أحمد، أخو أبي حامد الغزالي عن إبليس فقال: لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت وقسي القدر إذا رمت أصمت، ثم أنشد:
وكنا وليلى في صعود من الهوى *** فلما توافينا ثبت وزلت


أسكن، أقم، ومصدره السكنى كالرجعى، والمعنى راجع إلى السكون، وهو عدم الحركة. وكان الساكن في المكان للبثه واستقراره فيه غير متحرك بالنسبة إلى غيره من الأماكن. رغداً: أي واسعاً كثير الاعناء فيه، قال امرؤ القيس:
بينما المرء تراه ناعماً *** يأمن الأحداث في عيش رغد
وتميم تسكن الغين. وزعم بعض الناس أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها، مثل: بحر وبحر، ونهر ونهر، فأطلق هذا الإطلاق، وليس كذلك، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه التسكين نحو: السحر لا يقال فيه السحر، وإنما الكلام في فعل المفتوح الفاء الساكن العين، وفي ذلك خلاف. ذهب البصريون إلى أن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع، وهو مع ذلك مما وضع على لغتين، لا أن أحدهما أصل للآخر. وذهب الكوفيون إلى أن بعضه ذو لغتين، وبعضه أصله التسكين ثم فتح. وقد اختار أبو الفتح مذهب الكوفيين، والاستدلال مذكور في كتب النحو. حيث: ظرف مكان مبهم لازم الظرفية، وجاء جره بمن كثيراً وبفي، وإضافة لدى إليه قليلاً، ولإضافتها لا ينعقد منها مع ما بعدها كلام، ولا يكون ظرف زمان خلافاً للأخفش، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين، نحو: زيد حيث عمر، وخلافاً للكوفيين، ولا يجزم بها دون ما خلافاً للفراء، ولا تضاف إلى المفرد خلافاً للكسائي، وما جاء من ذلك حكمنا بشذوذ، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات الثلاث، ويجوز: حوث، بالواو وبالحركات الثلاثة. وحكى الكسائي أن إعرابها لغة بني فقعس. القربان: معروف، وهو الدنوّ من الشيء. هذه: تكسر الهاء باختلاس وأشباع، وتسكن، ويقال: هذي بالياء، والهاء فيما ذكروا بدل منها، وقالوا: ذ بكسر الذال بغير ياء ولا هاء، وهي تأنيث ذا، وربما ألحقوا التاء لتأنيث ذا فقالوا ذات مبنية على الكسر. الشجرة: بفتح الشين والجيم، وبعض العرب تكسر الشين، وإبدال الجيم ياء مع كسر الشين وفتحها منقول، وخالف أبو الفتح في كون اليد بدلاً، وقد أطلنا الكلام على ذلك في تأليفنا (كتاب التكميل لشرح التسهيل). والشجر: ما كان على ساق، والنجم: ما نجم وانبسط على الأرض ليس له ساق. الظلم: أصله وضع الشيء في غير موضعه، ثم يطلق على الشرك، وعلى الجحد، وعلى النقص. والمظلومة: الأرض التي لم تمطر، ومعناه راجع إلى النقص.
{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} الآية: لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي، ومناسبتها لما قبلها: أن الله لما شرف آدم برتبة العلم وبإسجاد الملائكة له، امتن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم. أباح له جميع ما فيها إلا الشجرة، على ما سيأتي فيها، إن شاء الله.
وقلنا: معطوف على الجملة السابقة التي هي قوله تعالى: {وإذا قلنا}: لا على قلنا وحده لاختلاف زمانيهما، ومعمول القول المنادى وما بعده، وفائدة النداء تنبيه المأمور له يلقى إليه من الأمر، وتحريكه لما يخاطب به، إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يجعل لها البال، وهو الأمر بسكنى الجنة. قالوا: ومعنى الأمر هنا إباحة السكنى والإذن فيها، مثل: {وإذا حللتم فاصطادوا} {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} لأن الاستقرار في المواضع الطيبة لا تدخل تحت التعبد، وقيل: هو أمر وجوب وتكليف، لأنه أمر بسكنى الجنة، وبأن يأكل منها، ونهاه عن شجرة واحدة. والأصح أن الأمر بالسكنى وما بعده مشتمل على ما هو إباحة، وهو الانتفاع بجميع نعيم الجنة، وعلى ما هو تكليف، وهو منعه من تناول ما نهى عنه. وأنت: توكيد للضمير المستكن في أسكن، وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوباً. وزوجك: معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت، ولا يجوز عند البصريين العطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام التأكيد، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف، وما سوى ذلك ضرورة وشاذ. وقد روي: قم وزيد، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك الضمير من غير توكيد ولا فصل. وتظافرت نصوص النحويين والمعربين على ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن، ويكون إذ ذاك من عطف المفردات. وزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون من عطف الجمل، التقدير: ولتسكن زوجك، وحذف: ولتسكن، لدلالة اسكن عليه، وأتى بنظائر من هذا الباب نحو: لا نخلفه نحن ولا أنت، ونحو: تقوم أنت وزيد، ونحو: ادخلوا أولكم وآخركم، وقوله:
نطوف ما نطوف ثم يأوي *** ذوو الأموال منا والعديم
إذا أعربناه بدلاً لا توكيداً، هو على إضمار فعل، فتقديره عنده، ولا تخلفه أنت، ويقوم زيد، وليدخل أولكم وآخركم، ويأوي ذوو الأموال. وزعم أنه استخرج ذلك من نص كلام سيبويه، وليس كما زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه، كما ذهب إليه النحويون. قال سيبويه، رحمه الله: وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو الضمير المرفوع، وذلك فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله، ثم ذكر تعليل الخليل لقبحه، ثم قال: نعته حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيد. وقال الله عز وجل: {اذهب وربك فقاتلا} {اواسكن أنت وزوجك الجنة}، انتهى.
فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهر على المضمر، وقد أجمع النحويون على جواز: تقوم عائشة وزيد، ولا يمكن لزيد أن يباشر العامل، ولا نعلم خلافاً أن هذا من عطف المفردات. ولتكميل الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا، وتوجه الأمر بالسكنى على زوج آدم دليل على أنها كانت موجودة قبله، وهو قول بعض المفسرين أنها خلقت من وقت علمه الله الأسماء وأنبأهم هو إياها.
نام نومة فخلقت من ضلعه الأقصر قبل دخول الجنة. وأكثر أئمة التفسير أنها خلقت بعد دخول آدم الجنة. استوحش بعد لعن إبليس وإخراجه من الجنة فنام، فاستيقظ فوجدها عند رأسه قد خلقها الله من ضلعه الأيسر، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ، فقالت له الملائكة، ينظرون مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حوّاء. قالوا: لم سميت حوّاء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. وفي هذه القصة زيادات ذكرها المفسرون لا نطول بذكرها لأنها ليست مما يتوقف عليها مدلول الآية ولا تفسيرها.
وعلى هذا القول يتوجه الخطاب على المعدوم، لأنه في علم الله موجود، ويكون آدم قد سكن الجنة لما خلقت أمراً معاً بالسكنى، لتسكن قلوبهم وتطمئن بالقرار في الجنة. وقد تكلم بعض الناس على أحكام السكنى، والعمرى، والرقبى، وذكر كلام الفقهاء في ذلك، واختلافهم حين فسر قوله تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة}، وليس في الآية ما يدل على شيء مما ذكر.
الجنة: قال أبو القاسم البلخي، وأبو مسلم الأصبهاني: كانت في الأرض، قيل: بأرض عدن. والهبوط: الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله: {اهبطوا مصراً} لأنها لو كانت دار الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله: {هل أدلك} ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله: {وما هم منها بمخرجين} ولأن إبليس ملعون، فلا يصل إلى جنة الخلد، ولأن دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله: {أُكلها دائم} ولأنه لا يجوز في حكمته أن يبتدئ الخلق في جنة يخلدهم، ولأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء. ولو كان نقله إلى السماء لكان أولى بالذكر، لأنه من أعظم النعم. وقال الجبائي: كانت في السماء السابعة لقوله: {اهبطوا}، ثم الهبوط الأول كان من تلك السماء إلى السماء الأولى، والهبوط الثاني كان من السماء إلى الأرض. وقالت الجمهور: هي في السماء، وهي دار الثواب، لأن الألف واللام في الجنة لا تفيد العموم، لأن سكنى جميع الجنان محال، فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق، والمعهود دار الثواب، ولأنه ثبت في الصحيح في محاجة آدم موسى فقال له: يا آدم أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة؟ فلم ينازعه آدم في ذلك. وقيل: هي السماء وليست دار الثواب، بل هي جنة الخلد. وقيل: في السماء جنة غير دار الثواب وغير جنة الخلد. ورد قول من قال: إنها بستان في السماء، فلم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة. ومما استدل به من قال: إنها في الأرض قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً} {ولا لغو فيها ولا تأثيم} {وما هم منها بمخرجين} وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحوّاء، ولأنها لو كانت دار الخلد لما وصل إليها إبليس ووسوس لهما حتى أخرجهما، ولأن جنة الخلد دار نعيم وراحة وليست بدار تكليف. وقد تكلف آدم أن لايأكل من الشجرة، ولأن إبليس كان من الجن المخلوقين من نار السموم. وقد نقل أنه كان من الجن الكفار الذين طردوا في الأرض، ولو كانت جنة الخلد لما دخلتها، ولأنها محل تطهير، فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين؟.
وأجيب عن الآيات أنها محمولة على حالهم بعد دخول الاستقرار والخلود، لا على دخولهم على سبيل المرور والجواز. فقد صح دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة في ليلة المعراج وفي غيرها، وأنه رآها في حديث الكسوف. وأما دخول إبليس إليها فدخول تسليط لا تكريم، وذلك إن صح قالوا: والصحيح أنه لم يدخل الجنة بل وقف على بابها وكلمهما، وأراد الدخول فردته الخزنة، وقيل: دخل في جوف الحية مستتراً. وأما كونها ليست دار تكليف، فذلك بعد دخولهم فيها للإقامة المستمرة والجزاء بالأعمال الصالحة. وأما الدخول الذي يعقبه الخروج بسبب المخالفة، فلا ينافي التكليف بل لا يكون خالياً منه.
{وكُلا}: دليل على أن الخطاب لهما بعد وجود حوّاء، لأن الأمر بالأكل للمعدوم فيه بعد، إلا على تقدير وجوده، والأصل في: كل أؤكل. الهمزة الأولى هي المجتلبة للوصل، والثانية هي فاء الكلمة، فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ، فوليت همزة الوصل الكاف، وهي متحركة، وإنما اجتلبت للساكن، فلما زال موجب اجتلابها زالت هي. قال ابن عطية وغيره: وحذفت النون من كلا للأمر، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكر ليس على طريقة البصريين، فإن فعل الأمر عندهم مبني على السكون، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره مناسبة للضمير، فتقول: كلى، وكلا، وكلوا، وفي الإناث يبقى ساكناً نحو: كلن. وللمعتل حكم غير هذا، فإذا كان هكذا فقوله: وكلا، لم تكن فيه نون فتحذف للأمر، وإنما يكون ما ذكره على مذهب الكوفيين، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب، وأن أصل: كل التأكل، ثم عرض فيه من الحذف بالتدريج إلى أن صار: كل. فأصل كلا: لتأكلا، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيه نون، إذ كان أصله: تأكلان، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية: إن النون من كلا حذفت للأمر.
{منها}: الضمير عائد على الجنة، والمعنى على حذف مضاف، أي من مطاعمها، من ثمارها وغيرها، ودل ذلك على إباحة الأكل لهما من الجنة على سبيل التوسعة، إذ لم يحظر عليهما أكل ما، إذ قال: {رغداً}، والجمهور على فتح الغين.
وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: بسكونها، وقد تقدم أنهما لغتان، وانتصاب رغداً، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا رغداً. وقال ابن كيسان: هو مصدر في موضع الحال، وفي كلا الإعرابين نظر. أما الأول: فإن مذهب سيبويه يخالفه، لأنها لا يرى ذلك، وما جاء من هذا النوع جعله منصوباً على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل. وأما الثاني: فإنه مقصور على السماع، قال الزجاج: الرغد الكثير الذي لا يعنيك، وقال مقاتل: الواسع، وقال مجاهد: الذي لا يحاسب عليه، وقيل: السالم من الإنكار الهني، يقال: رغد عيش القوم، ورغد، بكسر الغين وضمها، إذا كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وقالوا عيشة رغد بالسكون أيضاً.
{حيث شئتما}: أباح لهما الأكل حيث شاءا فلم يحظر عليهما مكاناً من أماكن الجنة، كما لم يحظر عليهما مأكولاً إلا ما وقع النهي عنه. وشاء في وزنه خلاف، فنقل عن سيبويه: أن وزنه فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت، واللام ساكنة للضمير، فالتقى ساكنان، فحذفت لالتقاء الساكنين، وكسرت الشين لتدل على أن المحذوف هو ياء، كما صنعت في بعت.
{ولا تقربا}: نهاهما عن القربان، وهو أبلغ من أن يقع النهي عن الأكل، لأنه إذا نهى عن القربان، فكيف يكون الأكل منها؟ والمعنى: لا تقرباها بالأكل، لا أن الإباحة وقعت في الأكل. وحكى بعض من عاصرناه عن ابن العربي، يعني القاضي أبا بكر، قال: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول: إذ قلت: لا تقرب، بفتح الراء معناه: لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن، وقد تقدم أن معنى: لا تقرب زيد: ألا تدن منه. وفي هذه الحكاية عن ابن العربي من التخليط ما يتعجب من حاكيها، وهو قوله: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل، وبين النضر والشاشي من السنين مئون، إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر بن شميل فيمكن. وقرئ: ولا تقربا بكسر التاء، وهي لغة عن الحجازيين في فعل يفعل، يكسرون حرف المضارعة التاء والهمزة والنون، وأكثرهم لا يكسر الياء، ومنهم من يكسرها، فإن كان من باب: يوحل، وكاسر، وفاتح، مع إقرار الواو وقلبها ألفاً. {هذه}: إشارة للحاضر القريب من المخاطب. وقرأ ابن محيصن: هذي بالياء. وقرأ الجمهور بالهاء.
{الشجرة}: نعت لإسم الإشارة، ويحتمل الإشارة أن تكون إلى جنس من الشجر معلوم، ويحتمل أن تكون إلى شجرة واحدة من الجنس المعلوم، وهذا أظهر، لأن الإشارة لشخص ما يشار إليه. قال ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر، وقال ابن عباس أيضاً، وأبو مالك وقتادة: السنبلة، وكان حبها ككلى البقر أحلى من العسل وألين من الزبد.
روي ذلك عن وهب. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. قال بعض الصحابة وقتادة: التين، وقال علي: شجرة الكافور. وقال الكلبي: شجرة العلم، عليها من كل لون، ومن أكل منها علم الخير والشر. وقال وهب: شجرة الخلد، تأكل منها الملائكة. وقال أبو العالية: شجرة من أكل منها أحدث. وقال بعض أهل الكتاب: شجرة الحنظل. وقال أبو مالك: النخلة. وقيل: شجرة المحنة. وقيل: شجرة لم يعلمنا الله ما هي، وهذا هو الأظهر، إذ لا يتعلق بعرفانها كبير أمر، وإنما المقصود إعلامنا أن فعل ما نهينا عنه سبب للعقوبة. وقرئ: الشجرة بكسر الشين، حكاها هارون الأعور عن بعض القراء. وقرئ أيضاً الشيرة، بكسر الشين والياء المفتوحة بعدها، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها، وينبغي أن لا يكرهها، لأنها لغة منقولة، فيها قال الرياشي: سمعت أبا زيد يقول: كنا عند المفضل وعنده أعراب، فقلت: إنهم يقولون شيرة، فقالوا: نعم، فقلت له: قل لهم يصغرونها، فقالوا شييرة، وأنشد الأصمعي:
نحسبه بين الأنام شيره ***
وفي نهي الله آدم وزوجه عن قربان الشجرة دليل على أن سكناهما في الجنة لا تدوم، لأن المخلد لا يؤمر ولا ينهى ولا يمنع من شيء. فتكونا منصوب جواب النهي، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء، وعند الجرمي بالفاء نفسها، وعند الكوفيين بالخلاف. وتحرير القول في هذه المذاهب يذكر في كتب النحو. وأجازوا أن يكون فتكونا مجزوماً عطفاً على تقربا، قاله الزجاج وغيره، نحو قوله:
فقلت له صوب ولا تجهدنه *** فيذرك من أعلى القطاة فتزلق
والأول أظهر لظهور السببية، والعطف لا يدل عليها، {من الظالمين}: قيل لأنفسكما بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء، أو بالأكل من الشجرة التي نهيتما عنها، أو بالفضيحة بين الملأ الأعلى، أو بمتابعة إبليس، أو بفعل الكبيرة، قاله الحشوية، أو بفعل الصغيرة، قاله المعتزلة، أو بإلزامها ما يشق عليها من التوبة والتلافي، قاله أبو علي، أو بحط بعض الثواب الحاصل، قاله أبو هاشم، أو بترك الأولى، قال قوم: هما أول من ظلم نفسه من الآدميين، وقال قوم: كان قبلهم ظالمون شبهوا بهم ونسبوا إليهم. وفي قوله: {فكتونا من الظالمين} دلالة على أن النهي كان على جهة الوجوب لا على جهة الندب، لأن تاركه لا يسمى ظالماً. قال بعض أهل الإشارات: الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق، وما زال آدم وحده بكل خير وبكل عافية، فلما جاءه الشكل والزوج، ظهر إتيان الفتنة وافتتاح باب المحنة، وحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل، فوقع فيما وقع. ولقد قيل:
داء قديم في بني آدم *** صبوة إنسان بإنسان
وقال القشيري: كل ما منع منه توفرت دواعي ابن آدم للاقتراب منه. هذا آدم عليه السلام أُبيح له الجنة بجملتها، ونهي عن شجرة واحدة، فليس في المنقول أنه مد يده إلى شيء من جملة ما أُبيح له، وكأنه عيل صبره حتى ذاق ما نهي عنه، هكذا صفة الخلق. وقال: نبه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} فإذا أخبر تعالى بجعله خليفة في الأرض، فكيف يمكن بقاؤه في الجنة؟ كان آدم لا أحد يوفيه في الرتبة يتوالى عليه النداء: يا آدم! ويا آدم! فأمسى وقد نزع عنه لباسه وسلب استئناسه، والقدرة لا تكابر، وحكم الله لا يعارض، وقال الشاعر:
لله درهم من فتية بكروا *** مثل الملوك وراحوا كالمساكين


أزل: من الزلل، وهو عثور القدم. يقال: زلت قدمه، وزلت به النعل. والزلل في الرأي والنظر مجاز، وأزال: من الزوال، وأصله التنحية. والهمزة في كلا الفعلين للتعدية. الهبوط: هو النزول، مصدر هبط، ومضارعه يهبط ويهبط بكسر الباء وضمها، والهبوط بالفتح: موضع النزول. وقال المفضل: الهبوط: الخروج عن البلدة، وهو أيضاً الدخول فيها من الأضداد، ويقال في انحطاط المنزلة مجازاً، ولهذا قال الفراء: الهبوط: الذل، قال لبيد:
إن يقنطوا يهبطوا يوماً وإن أُمروا *** بعض أصله مصدر بعض يبعض بعضاً
أي قطع، ويطلق على الجزء، ويقابله كل، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام، قالوا: مررت ببعض قائماً، وبكل جالساً، وينوي فيهما الإضافة، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام، ولذلك خطئوا أبا القاسم الزجاجي في قوله: ويبدل البعض من الكل، ويعود الضمير على بعض، إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً. وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه. العدو: من العداوة، وهي مجاوزة الحدّ، يقال: عدا فلان طوره إذا جاوزه، وقيل: العداوة، التباعد بالقلوب من عدوى الجبل، وهما طرفاه، سميا بذلك لبعد ما بينهما، وقيل: من عدا: أي ظلم، وكلها متقاربة في المعنى. والعدو يكون للواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث، وقد جمع فقيل: أعداء، وقد أنث فقالوا: غدوة، ومنه: أي عدوات أنفسهن. وقال الفراء: قالت العرب للمرأة: عدوة الله، وطرح بعضهم الهاء. المستقر: مستفعل من القرار، وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدراً وزماناً ومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف، فيكون لما ذكر بصورة المفعول، ولذلك سميت الأرض: القرارة، قال الشاعر:
جادت عليه كل عين ثرّة *** فتركن كل قرارة كالدرهم
واستفعل فيه: بمعنى فعل استقر وقرّ بمعنى. المتاع: البلغة، وهو مأخوذ من متع النهار إذا ارتفع، فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا، ويطلق على الزاد وعلى الانتفاع بالنساء، ومنه، {فما استمتعتم به منهن}، {ونكاح المتعة}، {وعلى الكسوة}، {ومتعوهن}، وعلى التعمير، {يمتعكم متاعاً حسناً} قالوا: ومنه أمتع الله بك، أي أطال الله الإيناس بك، وكله راجع لمعنى البلغة، الحين: الوقت والزمان، ولا يتخصص بمدة، بل وضع المطلق منه. تلقى: تفعل من اللقاء، نحو تعدى من العدو، قالوا: أو بمعنى استقبل، ومنه: تلقى فلان فلاناً استقبله. ويتلقى الوحي: أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه، وخرجنا نتلقى الحجيج: نستقبلهم، وقال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين
وقال القفال: التلقي التعرض للقاء، ثم يوضع موضع القبول والأخذ، ومنه وإنك لتلقى القرآن، تلقيت هذه الكلمة من فلان: أخذتها منه. الكلمة: اللفظة الموضوعة المعنى، والكلمة: الكلام، والكلمة: القصيدة سميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس، نحو: نبقة ونبق.
التوبة: الرجوع، تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف. تبع: بمعنى لحق، وبمعنى تلا، وبمعنى اقتدى. والخوف: الفزع، خاف، يخاف خوفاً وتخوف تخوفاً، فزع، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف، ويكون للأمر المستقبل. وأصل الحزن: غلظ الهم، مأخوذ من الحزن: وهو ما غلظ من الأرض، يقال: حزن يحزن حزناً وحزناً، ويعدى بالهمزة وبالفتحة، نحو: شترت عين الرجل، وشترها الله، وفي التعدية بالفتحة خلاف، ويكون للأمر الماضي. الآية: العلامة، ويجمع آيا وآيات، قال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع
ووزنها عند الخليل وسيبويه: فعلة، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس. وعند الكسائي: فاعلة، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة، فتثقل، وعند الفراء: فعلة، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان، وعند بعض الكوفيين: فعلة: استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف. الصحبة: الاقتران، صحب يصحب، والأصحاب: جمع صاحب، وجمع فاعل: على أفعال شاذ، والصحبة والصحابة: أسماء جموع، وكذا صحب على الأصح خلافاً للأخفش، وهي لمطلق الاقتران في زمان ما.
{فأزلهما الشيطان عنها}: الهمزة: كما تقدم في أزل للتعدية، والمعنى: جعلهما زلا بإغوائه وحملهما على أن زلاً وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية. وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل. تقول: أضحكت زيداً فما ضحك وأبكيته فما بكى، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البكاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول، وقال الشاعر:
كميت يزل اللبد عن حال متنه *** كما زلت الصفواء بالمتنزل
معناه: فيما يشرح الشراح، يزل اللبد: يزلقه عن وسط ظهره، وكذلك قوله: يزل الغلام الخف عن صهواته: أي يزلقه. وقيل أزلهما: أبعدهما. تقول: زل عن مرتبته، وزل عني ذاك، وزل من الشهر كذا: أي ذهب وسقط، وهو قريب من المعنى الأول، لأن الزلة هي سقوط في المعنى، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة، وبعده عنها. فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة. وقرأ الحسن وأبو رجاء وحمزة: فأزالهما، ومعنى الإزالة: التنحية. وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما. والشيطان: هو إبليس بلا خلاف هنا. وحكوا أن عبد الله قرأ، فوسوس لهما الشيطان عنها، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، فينبغي أن يجعل تفسيراً، وكذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف. وأكثر قراءات عبد الله إنما تنسب للشيعة. وقد قال بعض علمائنا: إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد، فتلك إنما هي آحاد، وذلك على تقدير صحتها، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر.
وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل: قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور: شافههما بدليل، وقاسمهما، قيل: فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: دخل في جوف الحية. وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم. وقد قصها الله تعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها. وقيل: لم يدخل إبليس الجنة، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل: قام عند الباب فنادى. وقيل: لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي ابتلى به آدم وذريته، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وقيل: خاطبه من الأرض ولم يصعد إلى السماء بعد الطرد واللعن، وكان خطابه وسوسة، وقد أكثر المفسرون في نقل قصص كثير في قصة آدم وحواء والحية، والله أعلم بذلك، وتكلموا في كيفية حاله حين أكل من الشجرة، أكان ذلك في حال التعمد، أم في حال غفلة الذهن عن النهي بنسيان، أم بسكر من خمر الجنة، كما ذكروا عن سعيد بن المسيب. وما أظنه يصح عنه، لأن خمر الجنة، كما ذكر الله تعالى، {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} إلا إن كانت الجنة في الأرض، على ما فسره بعضهم، فيمكن أن يكون خمرها يسكر. والذين قالوا: بالعمد، قالوا: كان النهي نهي تنزيه، وقيل: كان معه من الفزع عند إقدامه ما صير هذا الفعل صغيرة. وقيل: فعله اجتهاداً، وخالف لأنه تقدم الإشارة إلى الشخص لا إلى النوع، فتركها وأكل أخرى. والاجتهاد في الفروع لا يوجب العقاب. وقيل كان الأكل كبيرة، وقيل: أتاهما إبليس في غير صورته التي يعرفانها، فلم يعرفاه، وحلف لهما أنه ناصح. وقيل: نسي عداوة إبليس، وقيل: يجوز أن يتأول آدم {ولا تقربا} أنه نهي عن القربان مجتمعين، وأنه يجوز لكل واحد أن يقرب، والذي يسلك فيما اقتضى ظاهره بعض مخالفة تأويله على أحسن محمل، وتنزيه الأنبياء عن النقائص. وسيأتي الكلام على ما يرد من ذلك، وتأويله على الوجه الذي يليق، إن شاء الله.
وفي (المنتخب) للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه: منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج، قالوا: وقد وقع منهم ذنوب، والذنب عندهم كفر، وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية، واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يجوز عمداً ولا سهواً، ومن الناس من جوز ذلك سهواً وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد.
وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمداً إلا في القول، كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل. وقيل: يمتنعان عليهم، إلا على جهة السهو والخطأ، وهم مأخوذون بذلك، وإن كان موضوعاً عن أمتهم. وقالت الرافضة: يمتنع ذلك على كل جهة. واختلف في وقت العصمة فقالت الرافضة: من وقت مولدهم، وقال كثير من المعتزلة: من وقت النبوة. والمختار عندنا: أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة، لا الكبيرة ولا الصغيرة، لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة، لعظيم شرفهم، وذلك محال. ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم، ولئلا يقتدى بهم في ذلك، ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب، ولئلا يفعلون ضد ما أمرون به، لأنهم مصطفون، ولأن إبليس استثناهم في الاغواء. انتهى ما لخصناه من المنتخب.
والقول في الدلائل لهذه المذاهب، وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين. عنها: الضمير عائد على الشجرة، وهو الظاهر، لأنه أقرب مذكور. والمعنى: فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتكون عن إذ ذاك للسبب، أي أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة كقوله تعالى: {وما فعلته من أمري} {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} وقيل: عائد على الجنة، لأنها أول مذكور، ويؤيده قراءة حمزة وغيره: فأزالهما، إذ يبعد فأزالهما الشيطان عن الشجرة. وقيل: عائد على الطاعة، قالوا بدليل قوله: {وعصى آدم ربه} فيكون إذ ذاك الضمير عائداً على غير مذكور، إلا على ما يفهم من معنى قوله: {ولا تقربا} لأن المعنى: أطيعاني بعدم قربان هذه الشجرة. وقيل: عائد على الحالة التي كانوا عليها من التفكه والرفاهية والتبوّء من الجنة، حيث شاءا، ومتى شاءا، وكيف شاءا بدليل، {وكلا منها رغداً} وقيل: عائد على السماء وهو بعيد.
{فأخرجهما مما كانا فيه} من الطاعة إلى المعصية، أو من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا، أو من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب، أو رضوان الله، أو جواره. وكل هذه الأقوال متقاربة. قال المهدوي: إذا جعل أزلهما من زل عن المكان، فقوله: {فأخرجهما مما كانا فيه} توكيد. إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، انتهى. والأولى أن يكون بمعنى كسبهما الزلة لا يكون بإلقاء. قال ابن عطية: وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره: فأكلا من الشجرة، ويعني أن المحذوف يتقدر قبل قوله: {فأزلهما الشيطان}، ونسب الإزلال والإزالة والإخراج لإبليس على جهة المجاز، والفاعل للأشياء هو الله تعالى.
{وقلنا اهبطوا}: قرأ الجمهور بكسر الباء، وقرأ أبو حياة: اهبطوا بضم الباء، وقد ذكرنا أنهما لغتان. والقول في: {وقلنا اهبطوا} مثل القول في: {وقلنا يا آدم اسكن} ولما كان أمراً بالهبوط من الجنة إلى الأرض، وكان في ذلك انحطاط رتبة المأمور، لم يؤنسه بالنداء، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه.
والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله: {وقلنا يا آدم اسكن}، والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، أو هؤلاء وإبليس، قاله السدي عن ابن عباس، أو آدم وإبليس، قاله مجاهد، أو هما وحواء، قاله مقاتل، أو آدم وحواء فحسب. ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو: {وكنا لحكمهم شاهدين} ذكره ابن الأنباري، أو آدم وحواء والوسوسة، قاله الحسن، أو آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء، أو آدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، ورجحه الزمخشري قال: لأنهما لما كانا أصل الأنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ} ويدل على ذلك قوله: {فمن تبع هداي} الآية، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، انتهى. وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة. وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف، لأنه كان خرج قبلهما، ويجوز على ضرب من التجوز. قال كعب ووهب: أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة. وقال مقاتل: أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس، قيل بالأبلة، وحواء بجدّة، وآدم بالهند، وقيل: بسرنديب بجبل يقال له: واسم. وقيل: كان غذاؤه جوز الهند، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع. وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعاً.
وروي عن ابن عباس: أن الحية أهبطت بنصيبين. وروى الثعلبي: بأصبهان، والمسعودي: بسجستان، وهي أكثر بلاد الله حيات. وقيل: بيسان. وقيل: كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا. وقيل: لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة، علق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هناك طيباً، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحاً عن ذكرها، قال: وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمسمائة عام، مما يعد أهل الدنيا، والأشبه أن قوله: اهبطوا أمر تكليف، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب. فكيف يكون عقاباً مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار. وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه، والله يفعل ما يشاء. وأمره بالهبوط إلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: {قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو}، إن كان المخاطبون آدم وحواء وذريتهما، كما قال مجاهد، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض، والبعضية موجودة في ذريتهما، لأنه ليس كلهم يعادي كلهم، بل البعض يعادي البعض.
وإن كان معهما إبليس أو الحية، كما قاله مقاتل، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم، بل كلهم أعداء لكل بني آدم. ولكن بتحقق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئاً واحداً وجزّؤوا أجزاء، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير: كل جنس منكم معاد للجنس المباين له.
وقال الزجاج: إبليس عدوّ للمؤمنين وهم أعداؤه. وقيل معناه: عداوة نفس الإنسان له وجوارحه، وهذا فيه بعد، وهذه الجملة في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً، خلافاً للفراء ومن واقفه كالزمخشري. وقد روى سيبويه عن العرب كلمته: فوه إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شاذاً. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأموراً به، أو كالمأمور. ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكاً كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور به؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك، لأن الفعل إذا كان مأموراً به من يسند إليه في حال من أحواله، لم تكن تلك الحال مأموراً بها، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية. فلو كانت مأموراً بها إذا كان العامل فيها امراً، فلا يسوغ ذلك هنا، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد، ولا يمكن خلافه، لم يكن ذلك القيد مأموراً به، لأنه ليس داخلاً في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا النوع، قل يلزم أن يكون الله أمر بها، وهذه الحال من الأحوال اللازمة. وقوله: لبعض متعلق بقوله عدوّ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه، وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد.
{ولكن في الأرض مستقر}: مبتدأ وخبر. لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز {في الأرض} أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبراً، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه، أو في موضع الحال من مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك، وصار نظير: قائماً زيد في الدار، أو قائماً في الدار زيد، وهو لا يجوز بإجماع.
مستقرّ: أي مكان استقراركم حالتي الحياة والموت، وقيل: هو القبر، أو استقرار، كما تقدم شرحه.
{ومتاع}: المتاع ما استمتع به من المنافع، أو الزاد، أو الزمان الطويل، أو التعمير. {إلى حين}: إلى الموت، أو إلى قيام الساعة، أو إلى أجل قد علمه الله، قاله ابن عباس. ويتعلق إلى بمحذوف، أي ومتاع كائن إلى حين، أو بمتاع، أي واستمتاع إلى حين، وهو من باب الأعمال، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول، لأن متعلقه فضلة، فالأولى حذفه، ولا جائز أن يكون من أعمال الأول، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى. والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف، والمصدر موصول فلا يفصل بينه وبين معموله، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر بحرف مصدري مع الفعل، وهذا هو الموصول، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون موصولاً، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث، نحو قوله: لزيد معرفة بالنحو، وبصر بالطب، وله ذكاء ذكاء الحكماء. فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده، لا برفع ولا بنصب، قالوا: فإذا قلت: يعجبني قيام زيد، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد، وممكن أن زيداً يعرا منه القيام، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى، أو يفعله فيما يستقبل، بل تكون النية في الإخبار كالنية في: يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر. على هذه الطريقة لا يقضى عليه برفع، ولا يؤكد، ولا ينعت، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح، انتهى.
فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولاً مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً، وهو قولهم: يعجبني قيام زيد، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولاً نحو: ما مثلنا به من قوله: له ذكاء ذكاء الحكماء، وبصر بالطب، ونحو ذلك، فكذلك يكون مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً.
ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور، وإن لم يكن موصولاً، كما مثلنا في قوله: له معرفة بالنحو، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال، حتى الأسماء الأعلام، نحو قولهم: أنا أبو المنهال بعض الأحيان، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر. وأما أن تعمل في الفاعل، أو المفعول به فلا. وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين، وهو أن المصدر إذا نوّن، أو دخلت عليه الألف واللام، تحققت له الاسمية وزال عنه تقدير الفعل، فانقطع عن أن يحدث إعراباً، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب، فيمكن أيضاً أن يخرج عليه قوله تعالى: {مستقر ومتاع إلى حين}، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما، لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم. ويمكن أن يفسر قوله: {مستقر متاع إلى حين} بقوله: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} وفي قَوله {إلى حين} دليل على عدم البقاء في الأرض، ودليل على المعاد. وفي هذه الآية التحذير عن مخالفة أمر الله بقصد أو تأويل، وأن المخالفة تزيل عن مقام الولاية.
{فتلقى آدم من ربه كلمات}، تلقى: تفعل من اللقاء، وهو هنا بمعنى التجرد، أي لقي آدم، نحو قولهم: تعداك هذا الأمر، بمعنى عداك، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل، نحو: كسرته فتكسر، والتكلف نحو: تحلم، والتجنب نحو: تجنب، والصيرورة نحو: تألم، والتلبس بالمسمى المشتق منه نحو: تقمص، والعمل فيه نحو: تسحر، والاتخاذ نحو: تبنيت الصبي، ومواصلة العمل في مهلة نحو: تفهم، وموافقة استفعل نحو: تكبر، وموافقة المجرد نحو: تعدى الشيء، أي عداه، والإغناء عنه نحو: تكلم، والإغناء عن فعل نحو: توبل، وموافقة فعل نحو: تولى، أي ولى، والختل، نحو: تعقلته، والتوقع نحو: تخوفه، والطلب نحو: تنجز حوائجه، والتكثير نحو: تعطينا. ومعنى تلقي الكلمات: أخذها وقبولها، أو الفهم، أو الفطانة، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب. وقول من زعم أن أصله: تلقن، فأبدلت النون ألفاً ضعيف، وإن كان المعنى صحيحاً، لأن ذلك لا يكون إلا مما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو: تظني، وتقضى، وتسرّى، أصله: تظنن، وتقضض، وتسرر. ولا يقال في تقبل: تقبى. وقرأ الجمهور: برفع آدم ونصب الكلمات، وعكس ابن كثير. ومعنى تلقي الكلمات لآدم: وصولها إليه، لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال: فجاءت آدم من ربه كلمات.
وظاهر قوله: كلمات، أنها جملة مشتملة على كلم، أو جمل من الكلام قالها آدم، فلذلك قدروا بعد قوله: كلمات، جملة محذوفة وهي فقالها فتاب عليه. واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال، وقد طولوا بذكرها، ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد: هي {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا} الآية.
وروي عن ابن ابن مسعود، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبو ناحين: «اقترف الخطيئة سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: «ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» وما قاله يونس: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين». وروي عن ابن عباس ووهب أنها: «سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك خير الغافرين». وقال محمد بن كعب هي: «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم». وحكى السدّي عن ابن عباس أنه قال: «رب ألم تخلقني بيدك؟» قال: بلى، قال: ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة؟ قال: «نعم». وزاد قتادة في هذا: «وسبقت رحمتك إليّ قبل غضبك؟ قيل له بلى، قال: رب هل كتبت هذا عليّ قبل أن تخلقني؟ قيل له: نعم، فقال: رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قيل له: نعم». وقال قتادة هي: «أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التوّاب الرحيم». وقال عبيد بن عمير، قال: «يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك»، قال: «فكما كتبت عليّ فاغفر لي». وقيل إنها: «سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور». وقيل: رأى مكتوباً على ساق العرش محمد رسول الله، فتشفع بذلك فهي الكلمات. وقيل: قوله حين عطس: «الحمد لله». وقيل: هي الدعاء والحياء والبكاء. وقيل: الاستغفار والندم والحزن. قال ابن عطية: وسماها كلمات، مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي: «كن في كل واحدة منهن»، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود. انتهى كلامه.
{فتاب عليه}: أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة، لأنه هو المواجه بالأمر والنهي، وهي تابعة له في ذلك.
فكملت القصة بذكره وحده، كما جاء في قصة موسى والخضر، إذ جاء {حتى إذا ركبا في السفينة} فحملاها بغير نول، وكان مع موسى يوشع، لكنه كان تابعاً لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير، أو اكتفى بذكر أحدهما، إذ كان فعلهما واحداً، نحو قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله: {وعصى آدم ربه فغوى}
وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة، وقد ذكرها في قوله: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين، وقد ضرب بهما المثل للكفار، لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش. والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه، بل ينادي عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته. وحوّاء ليست كذلك، ولأن معصيتهما تكرّرت واستمرّ منهما الكفر والإصرار على ذلك، والتوبة متعذرة لما سبق في علم الله أنهما لا يتوبان، وليست حوّاء كذلك لخفة ما وقع منها، أو لرجوعها إلى ربها، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع، وهذا المعنى معقود فيهما، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما. وتوبة العبد: رجوعه عن المعصية، وتوبة الله على العبد: رجوعه عليه بالقبول والرحمة. واختلف في التوبة المطلوبة من العبد، فقال قوم: هي الندم، أخذاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «الندم توبة» وقال قوم: شروطها ثلاثة: الندم على ما فات، والإقلاع عنه، والعزم على أن لا يعود. وتأولوا: الندم توبة على معظم التوبة نحو: الحج عرفة، وزاد بعضهم في الشروط، يرد المظالم إذا قدر على ردها، وزاد بعضهم: المطعم الحلال، وقال القفال: لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك، وذلك أنه مأمور بالتوبة، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه، فيكون خائفاً. ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
روي عن ابن عباس أن آدم وحوّاء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة. وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئاً يفوت الحصر كثرة. وقال شهر بن حوشب: بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى. وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء. وقرأ الجمهور {إنه}: بكسر الهمزة، وقرأ نوفل بن أبي عقرب: أنه بفتح الهمزة، ووجهه أنه فتح على التعليل، التقدير: لأنه، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها، كما جاءت في: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمَّارة} {اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} {وصلّ عليهم إن صلاتك}، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها، وقالوا: إن إن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه، فإن قطع بأحد الأمرين، فليس من مظانها، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهراً، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} إن شاء الله.
ولما دخلت للتأكيد في قوله: {إنه هو التواب الرحيم}، قوي التأكيد بتأكيد آخر، وهو لفظه: {هو}. وقد ذكرنا فائدته في قوله: {وأولئك هم المفلحون} وبولغ أيضاً في الصفتين بعده، فجاء التواب: على وزن فعال، والرحيم: على وزن فعيل، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة. وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرّجوع إلى الطاعة، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه. والتواب من أسمائه تعالى، وهو الكثير القبول لتوبة العبد، أو الكثير الإعانة عليها. وقد ورد هذا الإسم في كتاب الله معرفاً ومنكراً، ووصف به تعالى نفسه، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى. وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزاً، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد، وذلك لاختلاف صلتيهما. ألا ترى: فتاب عليه، وتوبوا إلى الله؟ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه، ومن العبد هي الرّجوع إلى طاعته تعالى، لطلب ثواب، أو خشية عقاب، أو رفع درجات. وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة، لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه، ولحسن ختم الفاصلة بقوله: {الرّحيم}. وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها، فأغنى ذلك عن إعادته.
{قلنا هبطوا}، كرّر القول، إما على سبيل التأكيد المحض، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة، فكرّر تنبيهاً على ذلك، أو لاختلاف متعلقيهما، لأن الأول علق به العداوة، والثاني علق بإتيان الهدى. وأما لا على سبيل التأكيد، بل هما هبوطان حقيقة، الأول من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول: {ولكم في الأرض مستقر}، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني، فكان ينبغي الاستقرار أن يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما.
{جميعاً}: حال من الضمير في اهبطوا، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعاً وأنها تقتضي التعميم في الحكم، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط. وأبعد ابن عطية في قوله: كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً، فجعله نعتاً لمصدر محذوف، أو لاسم فاعل محذوف، كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره، لأنه قال: أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا. فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولاً، فكيف يقدر ثانياً؟ كأنه قال: هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً. فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره. وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن التقدير: وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه. ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول: أي فقلنا: إما يأتينكم.
وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط، وعلى تقدير أن يكون هبوطاً ثانياً، فقيل يخص آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخصا بخطاب الجمع تشريفاً لهما. وقيل: يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون التوكيد، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن: {فإما ترين} {وإما ينزغنك} {فإما تذهبن} قال أبو العباس المهدوي: إن: هي، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما لم تدخل النون، فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون، انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو: والله لأخرجن. وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة. وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان الإثبات أحسن. وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون، قال سيبويه: في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما، انتهى كلامه. وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال الشنفري:
فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً *** على رقة أحفى ولا أتنعل
وقال آخر:
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة *** فما التخلي عن الإخوان من شيمي
وقال آخر:
زعمت تماضر أنني إما أمت *** تسدد أبينوها الأصاغر خلتي
والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول الشاعر:
إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا *** فالله يحفظ ما تبقى وما تذر
فكما جاءت هنا زائدة بعد أن، فكذلك في نحو: إما تقم يأتينكم، مبني مفتوح الآخر. واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين: وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). {مني}: متعلق بيأتينكم، وهذا شبيه بالالتفات، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع، أو المعظم نفسه، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد. وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في: قلنا، عند شرح قوله: {وقلنا يا آدم اسكن} وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى. وفي قوله: مني، إشارة إلى أن الخير كله منه، ولذلك جاء: {قد جاءكم برهان من ربكم} {وقد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء} فأتى بكلمة: من، الدالة على الابتداء في الأشياء، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى، وأتى بأداة الشرط في قوله: {فإما يأتينكم مني هدى}، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه، والذي أنبهم زمان وقوعه، وإتيان الهدى واقع لا محالة، لأنه أنبهم وقت الإتيان، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطاً فيه إتيان رسل منه، ولا إنزال كتب بذلك، بل لو لم يبعث رسلاً، ولا أنزل كتباً، لكان الإيمان به واجباً، وذلك لما ركب فيهم من العقل، ونصب لهم من الأدلة، ومكن لهم من الاستدلال، كما قال:
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
قال معناه الزمخشري غير إنشاد الشعر. {هدى}: تقدم الكلام على الهدى في قوله: {هدى للمتقين} ونكره لأن المقصود هو المطلق، ولم يسبق عهد فيه فيعرّف. والهدى المذكور هنا: الكتب المنزلة، أو الرسل، أوالبيان، أو القدرة على الطاعة، أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقوال. فمن تبع: الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله: {فإما يأتينكم}. وقال السجاوندي: الجواب محذوف تقديره فاتبعوه، انتهى. فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده: {فمن تبع هداي}. وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن: من، في قوله: فمن تبع، شرطية، وأن جواب هذا الشرط هو قوله: {فلا خوف}، فتكون الآية فيها شرطان. وحكى عن الكسائي أن قوله: {فلا خوف} جواب للشرطين جميعاً، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في (كتاب التكميل)، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية، بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه: {والذين كفروا وكذبوا}، فأتى به موصولاً، ويكون قوله: {فلا خوف} جملة في موضع الخبر.
وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا.
وفي قوله: {فمن تبع هداي}، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه، وهو الهدى، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن. وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معزّفاً بالألف واللام، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله: {إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف. وقرأ الأعرج: هداي بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين، كقراءة من قرأ: ومحياي، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم الجحدري وعبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر: هديّ، بقلب الألف ياء وإدغمها في ياء المتكلم، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء، لأنه حرف لا يقبل الحركة، وهي لغة هذيل، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم، وقال شاعرهم:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم *** فتخرموا ولكل قوم مصرع
{فلا خوف عليهم}: قرأ الجمهور بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في {ولا هم يحزنون}، فرفعوا للتعادل. قال ابن عطية: والرفع على إعمالها إعمال ليس، ولا يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين: أحدهما: أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً، ويمكن النزاع في صحته، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه. والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما. ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم، فينفي كل فرد من مدلول الخوف، وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر. وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس، فالأولى أن يكون مبتدأ، كما ذكرناه، إذا كان مرفوعاً منوناً، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام، فيكون التقدير: فلا الخوف عليهم، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب: سلام عليكم، بغير تنوين. قالوا: يريدون السلام عليكم، ويكون هذا التخريج أولى، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي، وتأوله النحاة وهو:
وحلت سواء القلب لا أنا باغياً *** سواها ولا في حبها متراخيا
وقد لحنوا أبا الطيب في قوله:
فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً ***
وكنى بقوله: {عليهم} عن الاستيلاء والإحاطة، ونزل المعنى منزلة الجرم، ونفى كونه معتلياً مستولياً عليهم. وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال، ولذلك قال بعض المفسرين: ليس في قوله: {فلا خوف عليهم} دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة، إلا أنها مخففة عن المطيعين. فإذا صاروا إلى رحمته، فكأنهم لم يخافوا، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله: {ولا هم يحزنون}. وفي قوله: {ولا هم يحزنون} إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن، وأن غيرهم يحزن، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان: ولا يحزنون، كافياً. ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله: {إن الذين سبقت لهم} إلى قوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة} ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من الله الحسنى، وفي قوله: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع، ولا يذهب عنهم الحزن.
وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال: أحدها: لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت. الثاني: لا يتوقعون مكروهاً في المستقبل، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال. الثالث: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم، ولا هم يحزنون فيما خلفه. الرابع: لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. الخامس: لا خوف عليهم من عقاب، ولا هم يحزنون على فوات ثواب. السادس: إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوات محبوب. السابع: لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها. الثامن: لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون فيها. التاسع: أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن، لا خوف عليهم فيها ولا حزن. العاشر: ما قاله ابن زيد: لا خوف عليهم أمامهم، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم الله منه، ثم سلاهم عن الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا.
الحادي عشر: لا خوف حين أطبقت النار، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط، فقيل لأهل الجنة والنار: خلود لا موت. الثاني عشر: لا خوف ولا حزن على الدوام.
وهذه الأقوال كلها متقاربة، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم، لكن يخص بما بعد الدنيا، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك..
{والذين كفروا}: قسيم لقوله: {فمن تبع هداي}، وهو أبلغ من قوله: {ومن لم يتبع هداي} وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه، لأن نفي الشيء يكون بوجوه، منها: عدم القابلية بخلقة أو غفلة، ومنها تعمد ترك الشيء، فأبرز القسيم بقوله: {والذين كفروا} في صورة ثبوتية ليكون مزيلاً للاحتمال الذي يقتضيه النفي، ولما كان الكفر قد يعني كفر النعمة وكفر المعصية بين: أن المراد هنا الشرك بقوله: {وكذبوا بآياتنا}، وبآياتنا متعلق بقوله: {وكذبوا}، وهو من إعمال الثاني، إن قلنا: إن كفروا، يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا: لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال، ويحتمل الوجهين. والآيات هنا: الكتب المنزلة على جميع الأمم، أو معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأو القرآن، أو دلائل الله في مصنوعاته، أقوال. و{أولئك}: مبتدأ، {وأصحاب}: خبر عنه، والجملة خبر عن قوله: {والذين كفروا}، وجوزوا أن يكون أولئك بدلاً وعطف بيان، فيكون أصحاب النار، إذ ذاك، خبراً عن الذين كفروا. وفي قوله: {أولئك أصحاب النار} دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار. فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة. وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن، وهو صاحب النار. فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى، فصار نظير قوله الشاعر:
وإني لتعروني لذكرك فترة *** كما انتفض العصفور بلله القطر
وفي قوله: أولئك، إشارة إلى الذوات المتصفة بالكفر والتكذيب، وكأن فيها تكريراً وتوكيداً لذكر المبتدأ السابق. والصحبة معناها: الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن ينطلق على الملازمة، وإن كان أصلها في اللغة: أن تنطلق على مطلق الاقتران. والمراد بها هنا: الملازمة الدائمة، ولذلك أكده بقوله: {هم فيها خالدون}. ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية، كما جاء في مكان آخر: {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} فيكون، إذ ذاك، لها موضع من الإعراب نصب. ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما أنبهم في قوله: {أولئك أصحاب النار}، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران، بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب. ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي هو: أولئك، فيكون قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما مفرد، والآخر جملة، وذلك على مذهب من يرى ذلك، فيكون في موضع رفع. وقد تقدم الكلام على الخلود، وهل هو المكث زماناً لا نهاية له، أو زماناً له نهاية؟

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8